- في عالمٍ تكتنفه تساؤلاتٌ مُلحة حول قضية اللامساواة الاقتصادية التي تسود مجتمعاتنا، يبرز البروفيسور جيمس هيكمان، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، لا بصفته باحثًا تقليديًا، بل كمُحلّلٍ تشريحيٍّ لمُعضلات المجتمع الجوهرية.
- وقد عاد هذا العالِم، الذي ارتقى من فضاء الإحصاء الدقيق ليظفر بأرفع الجوائز العلمية، ليطرح تساؤلاتٍ أزليةً، ويحاول أن يقدم حلولًا جذريةً.
- إنه يستكشف ميدانًا بِكرًا تتلاقى فيه علوم الاقتصاد وعلم النفس والبيولوجيا، سعيًا وراء إجابةٍ للسؤال الأعظم: كيف نُوقف آلة الفقر والتهميش؟
- لا يرى هذا الباحث المرموق، الذي يجوب العالم في مهمةٍ شبه مقدسةٍ لتنوير العقول بحقيقة التفاوت، أن الحل يكمن في السياسات الاقتصادية المعهودة؛ فمن وجهة نظره، تتأصل جذور القصة بأكملها في السنوات الأولى من حياة الإنسان.
فك شفرة "رأس المال البشري": رؤية هيكمان تتجاوز مجرد الذكاء
- يرتكز جوهر فلسفة هيكمان على مصطلح صاغه زميله الحائز على جائزة نوبل، جاري بيكر، وهو "رأس المال البشري".
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
- بيد أن هيكمان يضفي عليه أبعادًا ثورية متعمقة، معللًا الأمر بأنه أدرك أن رأس المال البشري يتسم بتعدد الأبعاد.
- فالأمر لا يقتصر على مستوى الذكاء فحسب، بل يمتد ليشمل مثابرة الفرد، ومهاراته الاجتماعية، وقدرته على ضبط النفس.
- لقد طوّر هيكمان وفريقه في جامعة شيكاغو أدوات قياس أكثر ثراءً وعمقًا من اختبارات التحصيل الدراسي التقليدية، بهدف فهم الإمكانات البشرية الحقيقية بشكل أوفى.
- فهو يرى أن اكتساب هذه المهارات يُعد قرارًا استثماريًا حقيقيًا؛ يجب أن يبدأ في مرحلة مبكرة جدًا من الحياة، قبل أن تتصلب الفوارق وتستعصي على العلاج والتقويم.
وصفة هيكمان: العلاج يبدأ من "التربة" لا "الثمرة"
- يجادل هيكمان بقوة بأن المشكلة لا تكمن في وراثة المال، بل في وراثة رأس المال البشري، والثقافة، والقيم؛ فالأطفال الذين يولدون في بيئات محرومة يفتقرون إلى الدعائم المساندة التي ترشدهم وتحميهم.
- وهنا يكمن الحل، الصادم في بساطته وعمقه؛ ألا وهو التدخل الإيجابي والمكثف في مرحلة الطفولة المبكرة.
- يؤكد هيكمان، الذي وصل إلى هذا الاستنتاج بعد إحباطه من فشل برامج التدريب المهني للبالغين في التسعينيات، أنه أدرك حينها الأهمية القصوى للسنوات الأولى من العمر.
- فقد أثبتت البرامج التي تبدأ في سن مبكرة جدواها المذهلة على المدى الطويل. إذ لم تقتصر النتائج على تحسين الأداء الدراسي فحسب، بل امتدت لتشمل انخفاض معدلات الجريمة، وارتفاع الأجور، وتحسين الحالة الصحية للأفراد.
- ولا يتعلق الأمر بفرض إملاءات على الآباء، بل بتمكينهم؛ إذ إن بعض الأشياء التي تبدو بسيطة، مثل تثقيفهم حول صحة أطفالهم، أو تعليمهم كيفية قراءة قصة ما قبل النوم، أو تشجيعهم على الرسم معًا، تشكّل جوهر التربية الفعالة التي تخلق نتائج مذهلة للطفل والمجتمع على حد سواء.
فخ الإعانات: لماذا لا يكفي الدعم المالي وحده؟
- في إحدى أقوى حججه، يهاجم هيكمان بشدة الفرضية القائلة بأن الحل الجذري يكمن في الإعانات المالية المباشرة.
- وهو يضرب مثلاً حياً بالأم العزباء غير المتعلمة؛ فإذا تلقت إعانة في صورة راتب شهري، فسيتحول هذا الدعم إلى شريان حياة دائم، وربما يبقى كذلك مدى الحياة.
- فمن وجهة نظره، لا يجدي هذا الحل نفعًا، ولا يثمر عن أي نتائج سوى خلق "طبقة اجتماعية منفصلة عن بقية المجتمع، ومعتمدة عليه كلياً".
- ويرى هيكمان أن الحل الأكثر كرامة وفعّالية هو استثمار هذه الأموال في توفير رعاية أطفال عالية الجودة.
- وعندئذ، تُمنح هذه الأم فرصة سانحة لإكمال دراستها والظفر بوظيفة، وبذلك تصبح جزءاً فاعلاً ومنتجاً من المجتمع، وفي الوقت ذاته، ينعم طفلها بفوائد تنموية هائلة.
- نخلص من هذا إلى أن هيكمان يدعو إلى سياسات تمنح الأفراد "كرامة العمل" بدلاً من ترسيخ حالة من الاعتمادية التي تتوارثها الأجيال.
شرخ مجتمعي: حين تتجاوز اللامساواة حدود الاقتصاد
- لا يتوقف تشخيص هيكمان عند الجانب الاقتصادي فحسب، بل يتجاوزه ليصف شرخًا اجتماعيًا وسياسيًا عميقاً، لا سيّما في المجتمعات الغربية.
- وهو يتناول وضع العمال الذين فقدوا وظائفهم وشعروا بأنهم ضحايا التحوّلات الاقتصادية، وكيف انفصلوا تماماً عن النخبة المتعلمة، وأصبحوا وكأنهم يعيشون في عالميْن متوازييْن.
- ويُشدد هيكمان على أن حالة اللامساواة الراهنة لا تقتصر على الجانب الاقتصادي فحسب، بل تمتد لتشمل الأبعاد السياسية والاجتماعية أيضًا. فكرامة الأفراد باتت في مهب الريح، ولديهم كل المبررات للشعور بالخوف.
- ورغم إقراره بانخفاض إنتاجية هؤلاء العمال في بيئة العمل الجديدة، فإنه يرفض رفضاً قاطعاً فكرة عزلهم.
- وبدلاً من أن نردد على مسامعهم: "ابقوا في المنزل وسنرسل لكم إعانة"، يجب أن نقول: "بإمكاننا الاستفادة من خدماتكم وخبراتكم".
- فالمشاركة، في رأيه، هي الترياق الوحيد الكفيل بلم شمل المجتمع المتشرذم واستعادة الإحساس بالازدهار.
صوت الحكمة في زمن الضجيج
- يشعر هيكمان بمسؤولية عميقة تجاه تقديم مؤلف علمي ذي قيمة حقيقية؛ عمل ليس بالسرعة أو السطحية، بل عمل قادر على إحداث تحسين ملموس في حياة البشر.
- في الختام، تتسم رسالة جيمس هيكمان بالبساطة والقوة: إذا أردنا بناء مجتمع عادل ومزدهر، فعلينا أن نكف عن وضع ضمادات مؤقتة على جروح الماضي، وأن نبدأ بدلاً من ذلك في بناء مستقبل صحي من أساسه، بدءاً من اللحظة التي يولد فيها الطفل.
المصدر: يو بي إس
إخلاء مسؤولية إن موقع بالبلدي يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.
"جميع الحقوق محفوظة لأصحابها"
المصدر :" ارقام "
أخبار متعلقة :