: “خرائط سوق العمل المميت في مصر” بين فتيات المنوفية والطرق القاتلة… من يرسم خريطة العدالة المفقودة؟

masr360 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
كتبت- ماجدة القاضي

المقدمة: فتيات على طريق العنب                                                              

في صباحٍ بدت ملامحه عادية، انطلقت حافلة صغيرة (ميكروباص)، تُقلّ ما يقرب من عشرين فتاة من قرى محافظة المنوفية، في طريقهن إلى إحدى مزارع العنب للعمل في التعبئة الموسمية. لم يكنّ في نزهة، ولا في طريق تعليم، بل إلى عمل شاق مؤقت، بلا عقد ولا تأمين ولا مستقبل، مجرد أجر زهيد.
لكن الحافلة لم تصل. حادث مأساوي على طريق غير مؤهل وضع حدًا لحياة عدد منهن، وفتح بابًا واسعًا من الأسئلة التي لا تزال تبحث عن إجابات.

هذا التحقيق لا يتوقف عند الحادث، بل يبدأ منه. يحفر في طبقات أعمق: من سمح لفتيات في هذا العمر بالخروج إلى العمل؟ من ينظم هذا النوع من التشغيل؟ ولماذا يمرّ طريق العمل عبر الموت؟
نحن لا نكتب فقط عن حادث، بل عن سوق عمل غير رسمي، يبتلع الآلاف يوميًا، في صمت، ويصنع هشاشة، تتوزع بين الطرق والبيوت، بين الأسر والدولة، وبين الإعلام والواقع.

المحور الأول: الحادث الذي كشف المستور– لماذا تعمل هؤلاء الفتيات أصلًا؟               

حادث ميكروباص المنوفية لم يكن صدفة. كان نتيجة طبيعية لمسار طويل من الغياب: غياب الدولة عن تنظيم سوق العمل، غياب الرقابة على النقل، غياب الحماية القانونية للفتيات القاصرات، وغياب صوت من يمثل هؤلاء الفتيات أمام المؤسسات.

عدد من الفتيات كنّ تحت السن القانوني، وبعضهنّ طالبات في مراحل التعليم المختلفة، يخرجن للعمل لتغطية نفقات المعيشة أو تمويل تعليمهن. لم تكن الرحلة إلى المزرعة خيارًا حرًا، بل خيار الضرورة.

والطريق الذي سلكنَه، لم يكن مجهزًا أو آمنًا، ولا توجد عليه إشارات تحذيرية أو نقاط إنقاذ سريعة، ولا رقابة على السرعة أو نوع المركبات المستخدمة.

لكن الجريمة الحقيقية ليست فقط في الطريق، بل في أن هذا الطريق أصبح هو المسار الوحيد المتاح لآلاف الفتيات في القرى والمناطق المنسية.
العمل غير الرسمي، بدون ضمانات، في الزراعة أو الورش أو المصانع الصغيرة، أصبح البديل الوحيد أمام فتيات يفتقدن لفرص عادلة، أو دولة تُنظم وتحمي.

المحور الثاني: العمالة الهشة الظهر المنحني لسوق بلا قانون

في الزوايا المنسيّة من الاقتصاد المصري، تعمل ملايين الأيدي في صمت… بلا أوراق رسمية، بلا تأمين، وبلا أمان. يُطلق عليهم “العمالة الهشّة”، أولئك الذين يشكلون العمود الفقري لسوق العمل غير الرسمي، بينما لا يعترف بهم أحد.

العمالة الهشّة ليست مجرد توصيف فني، بل واقع يومي لفئات كاملة من الشعب: عمال اليومية، الفتيات اللاتي يتركن مقاعد الدراسة؛ بحثًا عن لقمة العيش، والأمهات اللاتي يحملن أعباء أسر كاملة. يعملون بلا عقود، في وظائف متقطعة، وبأجور غير مضمونة، وفي ظل غياب تام للرقابة أو الحماية.

تشير التقديرات الحديثة، إلى أن نحو 67٪ من العاملين في مصر يعملون بشكل غير رسمي.

ترتفع النسبة إلى 91٪ بين الشباب، وتكاد تصل إلى 98٪ في القطاع الزراعي وحده. ومع كل مستوى أقل من التعليم، تتضاعف الهشاشة. العاملون الحاصلون على تعليم أساسي يمثلون الفئة الأضعف بنسبة تشغيل غير رسمي، تقارب 90٪، مقابل 65٪ فقط لحاملي المؤهلات العليا.

لكن الأكثر إثارة للقلق هو التفاوت الصارخ بين المحافظات. ففي قلب القاهرة والجيزة، تنتشر أنماط هشّة من العمل: سائقو التوصيل، عمال ورش البناء، والعاملات بالمنازل، ومعهم باعة الأرصفة. أما في الدلتا– كالدقهلية والبحيرة والمنوفية– فالهشاشة تأخذ طابعًا زراعيًا؛ عمال الحصاد ونقل المحاصيل والصيادين الموسميين. جميعهم خارج نطاق الحماية.

أما الصعيد– حيث التنمية غائبة والفقر يتجاوز 60٪ في بعض المناطق– فالصورة أكثر قسوة. الوظائف شاقة، منخفضة الأجر، تفتقر لكل مقومات الأمان: مصانع صغيرة، ورش تقليدية، وأعمال حرفية غير منظمة. وفي المحافظات السياحية والحدودية، تُضاف هشاشة موسمية لأخرى هيكلية؛ مواسم عمل مؤقتة، بدخل عابر، وبلا غطاء قانوني.

وتظهر الخطورة بجلاء عند الربط بين هذا النمط من العمل وحوادث الطرق، كما في مأساة فتيات المنوفية. حادث لم يكن استثناءً، بل كاشفًا لهشاشة مركبة: فتيات بعضهن قاصرات، في سيارات غير مرخصة، في طريق غير مؤهل، وسائق بلا كشف دوري أو رقابة.

المفارقة القاسية، أن الدولة تعرف، والمجتمع يرى، لكن النظام يواصل إنتاج نفس الظروف التي تصنع الحادثة التالية..

المحور الثالث: الدولة والرقابة الغائبة– من المسئول؟                       

حين تسير الحوادث على الأسفلت، كما تسير الأخبار على الشاشات، يصبح السؤال الأكبر: من المسئول؟ لا يكفي أن نتحدث عن سائقي النقل ولا عن الطرق المتهالكة، لأن كل ذلك ليس سوى عَرَض للمرض الأصلي: غياب الدولة عن مراقبة سوق العمل الهش.

لا توجد قاعدة بيانات دقيقة، تُحصي العاملات تحت السن القانوني، ولا توجد جهة تفتيش متخصصة في ضبط ظروف العمل في “ورش التراحيل”، ولا تُفرض فحوص دورية على سائقي عربات النقل غير المرخصة التي تنقل الفتيات، كما لو كنّ “حُمولة”.

وزارة القوى العاملة نادرًا، ما تُدرج هذه الفئات في تقاريرها، والنقابات العمالية لا تشملهم، والضمان الاجتماعي لا يراهم أصلًا. فماذا تبقّى من مفهوم “الحماية”؟

وما بين سكوت قانوني وصمت مجتمعي، تتحول أرواح هؤلاء إلى أرقام في خبر عابر.

لكن من الذي يربح من هذا الصمت؟ هل هو المستثمر الذي يُشغّل بلا التزام؟ أم الأسرة التي “تتواطأ” اضطرارًا؟ أم الدولة التي تعتبر هؤلاء خارج نطاق الخدمة؟

المحور الرابع: حين يصبح الفقر قدرًا – أسر تدفع ببناتها للمجهول              

مش بكيفهم يا بنتي… دا العيال عاوزه تاكل”، جملة قالتها أم إحدى الضحايا، كما روت إحدى زميلاتهن. هنا يتقاطع الخطاب الأخلاقي مع الواقع الاقتصادي؛ إذ لا يمكن إدانة الأسر قبل فهم ما يدفعها لهذا الاختيار القاسي.

في محافظات مثل، المنوفية، البحيرة، بني سويف، وأسيوط، تصبح مساهمة البنات في دخل الأسرة ضرورة، لا ترفًا. وفي ظل ندرة فرص العمل الرسمية، يكون الحل في الانضمام لسوق العمل غير الرسمي: التنظيف، التعبئة، الزراعة، أو “المشاوير المرتبطة بالمواسم”.

بعض هؤلاء الفتيات لم يتركن الدراسة هربًا منها، بل لدفع تكاليفها. بين ضحايا حادث المنوفية فتاة، كانت تموّل دراستها في كلية الهندسة، وأخرى متفوقة، تحلم بأن تصبح مذيعة. لكن الحلم انهار تحت عجلات سيارة.

وهكذا، تصبح الأسرة حلقة في سلسلة أوسع من الانكشاف: فقر، غياب الدولة، سوق عمل بلا قواعد، وحلم يسقط في أول حفرة طريق

المحور الخامس: هل هناك بديل؟ تجارب دولية تنظم العمل الهش                            

ليست مصر وحدها من تعاني من اتساع سوق العمل غير الرسمي، لكنّ الفارق أن دولًا أخرى قررت التعامل مع الواقع بدل إنكاره.

في المغرب، تم دمج أكثر من نصف مليون عاملة منزلية ضمن نظام الحماية الاجتماعية عبر بطاقة رقمية. وفي الهند، تم إطلاق برامج تسجيل إلكتروني للعمالة اليومية، تمنحهم تأمينًا صحيًا ومعاشًا بسيطًا.

في فيتنام، يُمنح عمال الزراعة غير النظاميين دعمًا موسميًا من الدولة. أما في البرازيل، فتم إنشاء آلية (الاقتصاد التضامني) لتشجيع التعاونيات كبديل عن التشغيل الفردي الهش.

المحور السادس: طرق إلى الموت– عندما تميّز الدولة بين طرق وطرق

لا تمشي كل الطرق إلى الحياة. بعضها– مثل الطريق الدائري الإقليمي– يمشي مباشرة إلى الموت. حادث فتيات المنوفية لم يكن مجرد اصطدام مروّع، بل إشارة دامغة على تمييز صارخ في سياسات الدولة تجاه البنية التحتية: طرق فاخرة مُؤمّنة، تربط المنتجعات والمناطق الاستثمارية، مقابل طرق منسية، تمرّ عليها أجساد الهشاشة كل صباح.

الطريق الدائري الإقليمي، الذي بات معروفًا بعد الحادث، صُمم ليكون حلقة وصل بين المحافظات الكبرى، لكنه تحوّل إلى فخ قاتل. لا إنارة، لا مراقبة، لا نقاط إسعاف قريبة، ولا رقابة على السرعة أو نوع المركبات التي تمرّ فيه. والأخطر، أنه يُستخدم من قبل آلاف العاملين في النقل العشوائي، دون وجود رخص أو كشوف طبية دورية للسائقين.

في المقابل، نلاحظ أن طرق الساحل الشمالي أو العاصمة الإدارية أو العين السخنة مزودة بكاميرات مراقبة، رادارات للسرعة، نقاط مرور متقاربة، وخدمات إسعاف على مدار الساعة. لماذا هذا الفارق؟ لأن الفئة المستهدفة مختلفة. الفئة التي تمر من هناك تُرى، تُحترم، ويُحسب حسابها.

وهنا يتجدد سؤالنا: هل تتحرك الدولة لحماية المواطن أم لحماية المستثمر؟ لماذا يتم الاعتناء بطرق الفئات القادرة فقط، بينما تُترك طرق العمال والفقراء، بلا إنارة ولا خدمة ولا نجدة؟

الحادث لم يكن نتيجة خطأ سائق فقط، بل خطأ دولة، تُنفق مليارات على الطرق الفارهة، وتُهمل أبسط قواعد السلامة على طرق “الناس العادية”. إنه الوجه الآخر لمنطق السوق الذي تحدثنا عنه: كما تُهمَّش الفتاة في سوق العمل الهش، تُهمَّش أيضًا في طريقها إليه. وكما تُترك الأسرة تواجه مصيرها الاقتصادي، تُترك أيضًا لمصيرها على الأسفلت.

الطرق هنا ليست مجرد بنية تحتية، بل خريطة للتمييز الاجتماعي والاقتصادي. إن لم تكن ممَن “يمرّون في الأماكن المرئية”، فأنت ببساطة خارج الخريطة

المحور السابع: إعلام لا يرى… من لا صوت لهم                              

في عالم الأخبار السريعة، قد يبدو حادث فتيات المنوفية خبرًا عابرًا: شريط عاجل، تقرير ميداني سريع، ثم يُطوى الملف. لكن في تحقيق مثل هذا، ندرك أن “الخبر” كان مجرد قمة جبل الجليد، وأن ما تحته من صمت إعلامي هو جزء من المشكلة، لا مجرد تقصير.

الإعلام في مصر، في أغلبيته، لا يتعامل مع قضايا العمالة الهشة، أو الفقر البنيوي، أو الطرق المنسية، إلا حين تقع الكارثة. وحتى عند وقوعها، نراه يبحث عن “السبق” لا عن “التحقيق”، يتحدث عن “عدد الضحايا” لا عن “طبيعة العمل”، ويكتفي باللقطات لا بالأسئلة.

أين القصص الإنسانية وراء كل فتاة في تلك السيارة؟ من أين جاءت؟ ما قصة أسرتها؟ ما الذي دفعها للعمل؟ وكيف تعامل الإعلام مع أسئلة مثل: من المسئول؟ لماذا الطريق غير آمن؟ لماذا غابت الرقابة على السائق؟ ولماذا تعمل فتاة دون السن في ورشة، لا أحد يعرف من يملكها؟

الأخطر، أن بعض التغطيات الإعلامية اتجهت إلى تبرئة المنظومة وتحميل الضحايا جزءًا من اللوم: “لماذا ركبن هذه السيارة؟”، أو “أين كانت الأسر؟” وكأن الإعلام يتبنى رواية السلطة، بدلًا من مساءلتها.

وهكذا، يصبح الإعلام– دون قصد أو بتواطؤ– جزءًا من منظومة تُقصي الفقراء من الصورة، وتُبقي الحكاية ناقصة. فإذا لم تفتح الكاميرا على وجه الفتاة، قبل أن تموت، فإن صورتها بعد الحادث لا تكفي.

الإعلام الذي لا يرى الناس إلا وهم جثث، لا يصنع وعيًا ولا يرد حقًا

.

خاتمة| ما بعد الحادث: من يرسم خريطة العدالة من جديد؟                              

في حادث واحد، تكشفت سبع خرائط متداخلة: سوق عمل هش، فقر يدفع الأطفال للعمل، طرق تقتل بدل من أن توصِل، دولة تُميّز بين الفقراء والأغنياء في البنية التحتية، رقابة غائبة، إعلام لا يُمسك بالخيط، وأسر تُجبر على دفع بناتها نحو المجهول..

لكن ما بعد الحادث هو الأهم. لأن السؤال الحقيقي، ليس “لماذا ماتوا؟”، بل “لماذا كان عليهم أن يسلكوا هذا الطريق أصلًا؟”
لماذا اضطرت فتاة، أن تعمل، وأخرى أن تترك تعليمها، وثالثة أن تركب سيارة متهالكة لتصل إلى ورشة مؤقتة، تُشغّلها شبكة غير معلنة من العمل غير الرسمي؟

هل نواصل الاكتفاء بلوم السائق والقدر، أم نمتلك الشجاعة لنواجه الخريطة الكاملة؟
هل تتحرك الدولة لإعادة ضبط سوق العمل على أسس العدالة والكرامة؟
هل يُعاد النظر في توزيع الإنفاق العام على الطرق؟
هل يُدرج الفقراء في الحسابات الوطنية، لا فقط في نشرات الضحايا؟
هل نرى إعلامًا لا يتابع الحوادث فقط، بل يُضيء الجذور التي سبقتها؟

هذا التحقيق لا يملك إجابة قاطعة. لكنه يصرّ على طرح السؤال.

لأننا إذا لم نسأل اليوم، فسيُكتب غدًا خبر جديد: “حادث آخر، ضحايا آخرون… على الطريق نفسه”.

المصادر

تقارير وإحصاءات رسمية                                                                                          :

  1. منظمة العمل الدولية (ILO)– تقارير عن العمالة غير الرسمية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
  2. منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)– تقرير: Informality and Structural Transformation in Egypt, Iraq and Jordan، يونيو 2024.
    OECD Egypt Report 2024
  3. الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (CAPMAS) – تقارير القوى العاملة، والفقر، وخرائط التنمية.

دراسات مقارنة وتجارب دولية:

  • تقرير البنك الدولي: Improving Social Protection for Informal Workers – 2023.
  • تجارب المغرب، الهند، البرازيل، وفيتنام مأخوذة من مراجعات الأمم المتحدة لبرامج الحماية الاجتماعية وسجلات ILO.

إخلاء مسؤولية إن موقع بالبلدي يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.
"جميع الحقوق محفوظة لأصحابها"

المصدر :" masr360 "

أخبار ذات صلة

0 تعليق

محطة التقنية مصر التقنية دليل بالبلدي اضف موقعك
  • adblock تم الكشف عن مانع الإعلانات

الإعلانات تساعدنا في تمويل موقعنا، فالمرجو تعطيل مانع الإعلانات وساعدنا في تقديم محتوى حصري لك. شكرًا لك على الدعم ??