: قراءة في المجموعة القصصية «سرقة الإمام» للقاص والروائي محمد فايز حجازي

almessa 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

إعـــلان

 

بقلم الأديب والناقد/ أسامة أمين ريان

يتبدى التشويق في المجموعة القصصية «سرقة الإمام»للكاتب محمد فايز حجازي من حيرة تصيب القاريء من العنوان، فعلى الأقل قد يتساءل «من السارق؟» هل الإمام سارق أم مسروق؟ وقبل أن يدخل بنا إلى القصص التي وصفها بأنها محض ومضات إنسانية، يعطينا رأيه في فن القصة القصيرة كما يراه، ففي رأيه هو فن عربي محض، ودلل على ذلك بالقصص القرآني متمثلًا في قصة يونس عليه السلام، وربما هو بذلك يناقض آراء نقدية كثيرة، ترى أن هذا الفن غربي بالدرجة الأولى، لكن هذه مسألة أخرى يمكن مناقشتها في سياق آخر.

الكاتب صاحب لغة عربية رصينة، سلسة السياق، يستخدم مفرداته بدقة، حتى لو لزم الأمر إلى اللجوء إلى مفردة غريبة أو نادرة (استخدام مفردة «عليين» في الإشارة إلى السماء في التصور الديني الصوفي واستخدام مفردة «الخَلَد» في الإشارة إلى العقل وغيرها..) ولذلك فهو صاحب ثقافة دينية عميقة، يتردد صداها في النصوص، وربما تنحو نحو الصوفية، وقد يكون السبب في هذا نشأته في عمق القاهرة الفاطمية، فيكاد يرسم لنا خريطة حافلة بمقامات وأضرحة أهل البيت، وأيضًا الأسبلة والشوارع الضيقة بأرصفتها العتيقة، ويحمل لنا كل الشوق والحنين المشوب بالشجون. الاستفهام في مطلع القصة الأولى -المعنونة بعنوان المجموعة- يأتي على لسان داعية شهير في حالة اعتراف بذنوب وآثام ارتكبها، بل وسرقة عانى منها طويلًا، ربما لإحداث تقارب وتآلف مع جمهوره، وقد تكون هنا الإشارة لجمهوره بأن الله غفور رحيم، لذلك راح يحكي لنا كراوٍ عليم، عن واقعة حدثت له عندما كان صغير السن، نتج عنها شعوره بالذنب، وكانت يقظة ضميره سببًا في آثار مرضية لاحظها أهله، وتأثر بها استغراقه في المذاكرة، مع محاولاته اقتطاع مبلغ من مصروفه، يسدده للبائع «مصطفى» ثمنًا لكيس الكتب الذي اختلسه من فرشة الكتب على باب المسجد، يبررها بشدة تعلقه بالشيخ الشعراوي كاتب هذه الكتب، وترقبه لبرنامجه في التليفزيون، لذلك لم يتمالك نفسه أمام كيس الكتب، فانتزعه وعانى من تعذيب ضميره ووالده يرقبه. كما يدلل على عمق تدينه بتذكر نشيد يردده الصغار للسخرية من زميلهم الفاطر في شهر رمضان، والحيل التي يفتعلها الصغار لارتشاف قدر من الماء أثناء الوضوء لإطفاء العطش. وظلت الحكاية تطارده لأكثر من ثلاثين عامًا، راقب خلالها «مصطفى» وقد بدت عليه آثار الزمن خلال زيارته لمسقط رأسه ومروره على مزارات أهل البيت، ظل يسائل نفسه، كيف يستطيع تعويض مصطفى الذي ساءت أحواله، حتى يرتاح ضميره؟ لكن هيهات -يقول- فالجرح مؤلم يصدر ضجة في القلب وضوضاء في الروح. في القصة التي تحمل عنوان «سالي» يواصل الكاتب حالة الحنين لأحداث عميقة في طفولته لم تغادر وعيه، وحتى لم تزحها الذاكرة إلى الأماكن الأبعد في الوعي فالصور العائلية القديمة التي تحتفظ بها أمه تحمل الكثير من حكايات الأشخاص والذكريات وخاصة من غادرونا، فتأتي صورة «سالي» الفتاة الصغيرة التي كانت جارة لهم وتوفيت صغيرة، ولم يدركها الراوي «الصبي». وقتها صدمته فكرة الموت بغموضها، ورأى فيها شيئًا غامضًا في وعيه الناضج، وفي عبارة تقريرية -هو ذلك الغامض المخيف الناعم الذي يضفي على صاحبه شجنًا ساحرًا. ويبدو أن إسهاب الأم في وصفها لسالي وجمالها وخفة روحها قد ولّد في نفس الصبي نوعًا من التعلق الروحاني الخفي، خاصة وأن للكاتب نزعات صوفية واضحة بحكم روحانية جو النشأة، ومحاولات «استكناه» روحها باستمراره في التساؤل عنها، حتى إن أمه أبدت دهشتها من ذلك السلوك المريب للصبي، وربما هذا ما يفسر اختفاء الصورة من كتابه بعد أن استولى عليها ليخاطبها ليلًا، وبالفعل يحبها. كان لرد الأم الحاني على سؤاله حول اختفاء الصورة «ستجدها يومًا ما» أثرٌ عميقٌ في تعميق جرحه، حتى أنه انتحب كثيرًا وهو يقول «سالي».

يبدو المنحنى الأسطوري في قصة «ملاك القرية» وقد انتقل بنا إلى مكان آخر هو القرية ببيوتها المتداعية وأصوات نقيق الضفادع، وأهل القرية وليلة شتوية من ليالي القرى التي يحكم الوقت فيها الظواهر الطبيعية، وصوت آذان المسجد. يصف لنا «سلاح النوم الفتاك» في سبات ما بعد العشاء، ثم في الصباح يخرج الأهالى «كموكب النمل» للذهاب إلى العمل ويزداد نشاطهم مع اقتراب يوم السوق. يبدو التعب والإرهاق على الفلاحة «رئيفة» في تناولها للفأس لتنقية الأعشاب الضارة، وآلام الظهر وهى تنقل الأقفاص لتحميل عربة يجرها حمار، بعد ليلة من الأرق والدموع، وقد سجن زوجها في قضية لا نعرفها من النص، إلّا أن صورته وهو يتألم ويتعذب لا تبارح خيالها. يصف لنا مدى تعبها وإرهاقها وشكواها إلى الله ويتدخل الكاتب هنا في فقرة تقريرية يمعن فيها في وصف متاعبها ربما لتمهيد ظهور «المُخلص». يمر بها شاب قوي وهى مستسلمة لمتاعبها مع الفأس، في وصف أسطوري يصفه بالقوى وملامح النبل وفي ملابس غريبة، حتى إنها رأته «يشع نورًا» وفي حوار من طرف واحد تشعر بالخجل لأنها لا تملك ما تدفعه له، لا يتكلم، بل خلع ملابسه وتناول الفأس بهمة وراح يعمل. راحت ترقبه خلسة، ولحظت حياءه وبدا كحيوان أليف. هرعت إلى حماتها، عادتا معًا ترقبانه، اتفقتا على أنه ملاك. ثم دار حوار عجيب بينهما حول الزوج السجين، أنهته العجوز بقولها «ليس للملائكة سلطان على قلوب الأشرار».

يفاجئنا الكاتب بحالة من الشجن الشفيف في قصته «مقهى العهد الجديد» حين يلتقي بصديق المدرسة القديم، فيدور الحوار بفصحى بديعة، مستهلًا «قل لي بربك» توقف وقالها لصديقه بغتة، يحمل الحوار تعلقهما بالمكان ومحاولات استرجاع الزمان وشعورهما بعبق التاريخ، وبرغم التغير الواضح فقد ظل وعيهما محتفظًا بالصور القديمة، بعد ثلاثين عامًا، راحا يتذكران محلات العصير والكشري، وما دار حولهما من حكايات وما كانت تبثه من أغانٍ وموسيقى، وربما روائح مغرية مع إشارات إلى تدهور الحالة الفنية والذوق السائد الآن، وتضمن الحوار أيضًا معالم طريقهما من منازلهما القديمة إلى المقهى (وكان اسمه مقهى الجمهورية)، مرورًا بمساجد أهل البيت، وإشارات إلى تواريخ الأسبلة التي تحيط بالمكان، ويتخلل الحديث وصف للإجازة الصيفية في زمنهما، وكيف كانت مليئة بالعمل في مهن مختلفة لادخار بعض نفقات التعليم، دخلا المقهى من باب جديد، باستغراب يسألان النادل المسن حول مكان الباب القديم، يصر الرجل على أن هذا هو المكان منذ جاء، يشعران بغربة مع اختفاء المرآة الضخمة القديمة(التي ربما تحتفظ بصورهما يتأنقان أمامها) وقد أزعجتهما مرآة جديدة يحيطها إطار (عديم الذوق) مع اختفاء «رف» الراديو القديم. وقفا أمام تلك المرآة يتفحصان تجاعيد ظهرت على وجهيهما، تبادلا نظرات عبّر الكاتب عنها بتقريرية فلسفية عن قسوة الحياة مع انفلات الزمن «فماذا بإمكان العالم أن يعطيهما».

في قصته «الدراجة الخشبية»، يصف لنا بيتًا قديمًا متهالكًا بين بيوت تشبهه في الحارة العتيقة، يكسو الصدأ مفصلات أبوابه فلا تدور، وقد انغرزت الضلف في تراب تراكم عبر ما يزيد على المائة عام، وكذلم مفصلات شبابيكه الأرابيسك. هجر الشباب الحارة إلّا من بعض كبار السن، لذلك تعاني زوجة سائق هيئة النقل العام الشابة من الوحدة. فهما يقطنان وابنهما الصبي صاحب الأعوام التسعة أيضًا من الوحدة، فلا أبناء للجيران يلهو معهم، أفرغ نشاطه الطفولى وإبداعه في ابتكار مركبات تفنن في تزويدها بعجلات (رولمان البلي القديم أو أغطية زجاجات المياه الغازية، وهى إشارة إلى ألعاب الطبقة الوسطى في هذه الفترة) وربما هو متأثر بمهنة أبيه الذي ينصحه دائمًا بأنه سيكون أفضل منه حالًا، يسود التوتر العلاقة بين السائق وزوجته لإحساسها الدائم بالوحدة مع غيابه عنهما لأوقات طويلة، يحاول إقناعها أنه يعمل على التاكسي بعد الوردية؛ كي يكفي مصاريفهم ويفي بوعده لها بسكن آخر، في عذا الشجار المحتدم، يصف لنا الكاتب ببراعة سلوك الصبي الحائر، فيتصنع الانشغال بألعابه، مع تجنب النظر إلى أعينهما المشتعلة، بينما يدعو الله أن يصلح أحوالهما (الملمح الإيماني الذي يظهر في كل قصص المجموعة). في ذلك الصباح كان الولد قد انتهى من صناعة دراجته الخشبية، وتهيأ لتجربتها أمام البيت، يستمع لشجارهما، يلحظ خروج أبيه الغاضب مندفعًا، يليه صوت تشغيل سيارة التاكسي القريبة من البيت، يخرج الصغير فرحًا لتجربة اختراعه بتفاؤل، فكان الصدام وكان السقوط، تناثرت أجزاء الدراجة الخشبية على أرض الحارة مختلطة بدماء الطفل. وتحت عنوان مباشرة المأسوية.

تأتي قصة «نهاية كاتب»، يسودها جو من الضيق والحيرة من كراهية وسلبية زوجات الكتّاب تجاه منجزهم الأدبي. في بداية تراثية يدعو الراوي فيها لزوجته بالهداية، لكنه سرعان ما يرتد إلى شعوره بالمرارة من كراهية زوجته للقراءة والثقافة عمومًا، يضطر الكاتب إلى إخبار القاريء بكيفية تعارفهما وإقدامه على خطوبتها لاقتناعه بأن تربيتها في إيطاليا -معقل الفن والأدب- ستكون فاتحة لتكوين أسرة تستمتع بالفنون والرقي، لكن هيهات حتى أنها ضجت من قراءة قصة له (من مجموعة سفير إبليس) فغضبت وراحت تكيل له الاتهامات وتسأله عن شخصيات نسائية وردت في القصة، لاحظت أنه يصفها بحميمية، راح يشرح لها أدبيات عالم القصة؛ ليهديء من روعها وغضبتها فلا تزعج أطفالهما، أصرت على أنه يعرف نساء غيرها، ويكتب عنهن، واعتبرت أن حديثه هذا مماطلة، وهنا نلحظ انحدار مستوى لغتها، وهى صاحبة الثقافة الغربية، وتشترط عليه شروطًا ثلاثة (يكف عن الكتابة، يقفل صفحته على مواقع التواصل، يتخلص من كتبه السابقة)، وإلّا فالانفصال. يتذكر حوار العالم والجاهل كما نص عليه الإمام الشافعي، فيقنعها بشق الأنفس بأن كل هذه الأمور الواردة في الاشتراطات هي إرث للأولاد، اقتنعت قليلًا، لكنه أصبح يتجنبها متخيرًا أماكن أخرى للكتابة، ويتصنع أنه يكتب تقارير عن سير العمل، ويعزز هذا الاكتشاف بتأكيده أن كتاباته هذه التي بين أيدينا تتم في مركز صيانة السيارات، حيث يتمنى أن يطول زمن صيانة سيارته لساعات طويلة. حاول الكاتب أن يصالح القارئ بقصة «نجم البوب»  التي تميل إلى المرح، حول علاقة الجيرة التي ضمته بنجم الغناء، ولقاءاتهما حول الغناء ومستواه الذي ينحدر، لكنني أعتقد أن الجرح كان عميقًا جراء «الدراجة الخشبية» و«نهاية كاتب».

إخلاء مسؤولية إن موقع بالبلدي يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.
"جميع الحقوق محفوظة لأصحابها"

المصدر :" almessa "

أخبار ذات صلة

0 تعليق

محطة التقنية مصر التقنية دليل بالبلدي اضف موقعك
  • adblock تم الكشف عن مانع الإعلانات

الإعلانات تساعدنا في تمويل موقعنا، فالمرجو تعطيل مانع الإعلانات وساعدنا في تقديم محتوى حصري لك. شكرًا لك على الدعم ??